لا تنازل بلا ضمانات.. الرأي العام الأوكراني يرسم خطوطاً حمراء أمام زيلينسكي
لا تنازل بلا ضمانات.. الرأي العام الأوكراني يرسم خطوطاً حمراء أمام زيلينسكي
كشف استطلاع حديث أجراه معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع عن موقف شعبي صارم في أوكرانيا إزاء مسار أي تسوية سياسية محتملة مع روسيا، في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية لإنهاء الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، وأظهر الاستطلاع أن غالبية واسعة من الأوكرانيين ترفض تقديم تنازلات كبيرة، ما يعكس حجم التعقيد الذي يواجهه الرئيس فولوديمير زيلينسكي وهو يحاول الموازنة بين متطلبات الداخل وضغوط الحلفاء وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
بحسب نتائج الاستطلاع المنشورة اليوم الاثنين، فإن ثلاثة أرباع الأوكرانيين يرفضون بشكل قاطع أي اتفاق سلام يقوم على تنازلات جوهرية تمس السيادة أو القدرات الدفاعية للبلاد.
وأكد 75 بالمئة من المشاركين أن أي خطة تميل لصالح روسيا وتتضمن تخلي أوكرانيا عن أراضٍ أو فرض قيود على حجم جيشها دون الحصول على ضمانات أمنية واضحة تعد غير مقبولة على الإطلاق، وتعكس هذه النسبة العالية درجة الحساسية الوطنية المرتبطة بملف الأرض والأمن، بعد سنوات من الحرب والخسائر البشرية والمادية، وفق وكالة رويترز.
مرونة محدودة وشروط واضحة
في المقابل، أبدى 72 بالمئة من الأوكرانيين استعدادهم للنظر في اتفاق يقوم على تجميد خط الجبهة الحالي، حتى لو تضمن بعض التنازلات المحدودة، غير أن هذا القبول المشروط يعكس رغبة في وقف نزيف الحرب دون التفريط بالثوابت الأساسية، ويشير مراقبون إلى أن هذا الموقف يعبر عن براغماتية حذرة لدى جزء من المجتمع، تقابلها خطوط حمراء واضحة لا يمكن تجاوزها.
سعت كييف في الأشهر الماضية إلى رفض الخطة الأصلية التي حظيت بدعم أمريكي في مراحل سابقة، واعتبرتها القيادة الأوكرانية ومعها عدد من الحلفاء الأوروبيين أقرب إلى تلبية مطالب موسكو، وتقوم تلك الخطة، بحسب الرؤية الأوكرانية، على تخلي كييف عن كامل منطقة دونباس شرق البلاد، إضافة إلى فرض قيود كبيرة على قدراتها العسكرية، وهو ما تعتبره أوكرانيا تهديدا مباشرا لأمنها القومي ومستقبلها السياسي.
زيلينسكي في مواجهة الشارع
تضع نتائج الاستطلاع الرئيس زيلينسكي أمام معادلة داخلية صعبة، إذ يظهر بوضوح أن أي تنازل كبير قد يواجه برفض شعبي واسع، ويأتي ذلك في وقت يتعرض فيه لضغوط متزايدة من البيت الأبيض لإيجاد مخرج سياسي ينهي الحرب، وسط مخاوف غربية من استمرار النزاع واستنزاف الموارد، وبين هذين المسارين، يحاول زيلينسكي الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية وعدم فقدان ثقة الشارع الذي يشكل مصدر شرعيته الأساسية.
لم يقتصر الاستطلاع على أسئلة السلام والتنازلات، بل تناول أيضا استعداد الأوكرانيين للاستمرار في الحرب، وأظهرت النتائج أن 63 بالمئة من المشاركين مستعدون لمواصلة القتال إذا فشلت الجهود السياسية في تحقيق تسوية عادلة. وفي المقابل، قال 9 بالمئة فقط إنهم يعتقدون أن الحرب قد تنتهي بحلول أوائل عام 2026، ما يعكس تشاؤما واسعا حيال قرب التوصل إلى حل نهائي.
تراجع الثقة في الحليف الأمريكي
من أبرز ما كشفه الاستطلاع تراجع مستوى الثقة الشعبية في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فقد عبّر 21 بالمئة فقط من الأوكرانيين عن ثقتهم بواشنطن، بعد أن كانت النسبة 41 بالمئة في ديسمبر الماضي، كما انخفضت الثقة بحلف شمال الأطلسي إلى 34 بالمئة مقارنة بـ43 بالمئة في الفترة نفسها. ويعكس هذا التراجع شعورا متناميا بالقلق من تبدل المواقف الدولية، ومن احتمال تراجع الدعم الغربي أو ربطه بتنازلات سياسية مؤلمة.
في ظل هذا المناخ، تركز كييف وحلفاؤها الأوروبيون على مطلب أساسي يتمثل في الحصول على ضمانات أمنية واضحة من الولايات المتحدة في إطار أي اتفاق سلام، وأعلن الرئيس زيلينسكي في تصريحات أخيرة أن أوكرانيا قد تكون مستعدة للتخلي عن طموحاتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي مقابل هذه الضمانات، ويعد هذا الطرح محاولة لفتح نافذة تفاوض جديدة، من دون الظهور بمظهر المتنازل عن جوهر الأمن الوطني.
قلق اجتماعي وسياسي
يعكس المزاج الشعبي الأوكراني، كما أظهره الاستطلاع، حالة من الإرهاق العميق جراء الحرب، يقابلها تمسك قوي بالكرامة الوطنية، فالأوكرانيون الذين دفعوا ثمنا باهظا من أرواحهم واقتصادهم وبنيتهم التحتية، يخشون أن تذهب هذه التضحيات سدى في حال فرض اتفاق سلام لا يحقق لهم الأمان والاستقرار على المدى الطويل، ولهذا يبدو المجتمع الأوكراني مستعدا لتحمل كلفة استمرار الصراع إذا كان البديل سلاما هشا يفتح الباب أمام جولات جديدة من العنف.
توقيت ودلالات الاستطلاع
أجري الاستطلاع بين أواخر نوفمبر ومنتصف ديسمبر، وشمل 547 مشاركا من مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة أوكرانيا، ويمنح هذا التوقيت أهمية خاصة للنتائج، إذ جاء في مرحلة تشهد تكثيفا للنقاشات الدولية حول مستقبل الحرب، وتزايد الحديث عن تسويات محتملة، ويرى محللون أن هذه الأرقام تمثل رسالة واضحة إلى القيادة السياسية والشركاء الدوليين بأن أي حل لا يحظى بقبول شعبي واسع سيكون مهددا بالفشل.
منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا تحولت البلاد إلى ساحة صراع دولي تتقاطع فيها المصالح الجيوسياسية الكبرى، وقد أدى النزاع إلى مقتل وإصابة مئات الآلاف، ونزوح ملايين الأوكرانيين داخليا وخارجيا، إضافة إلى أضرار هائلة في البنية التحتية والاقتصاد، وعلى الصعيد السياسي، تسعى أوكرانيا إلى الحفاظ على دعم غربي مستمر في مواجهة روسيا، بينما تحاول في الوقت ذاته حماية سيادتها ومنع فرض حلول تنتقص من أراضيها أو قدراتها الدفاعية.











